كــــــلــــمة و رؤيــــــــا

طواحين الماء

د. محمد رقية- فينكس

▪عندما كنت صغيراً، في بداية ستينات القرن الماضي، كانت توجد طاحونة ماء بقربنا، لطحن القمح والحبوب، وكان الأهالي في ذلك الزمن أثناء فترة الأعياد يفضلون طحن الأقماح فيها لتحضير حلويات العيد والفطائر والكعك والزليبي وغيرها بدلاً من طحين المطاحن الآلية التي انتشرت بكثرة في المنطقة الساحلية.

▪ أتذكر أني ذهبت في إحدى المرات مع والدتي إلى طاحونة الماء هذه الأقرب إلينا في وادي بيت المرج لطحن القمح، وبسبب عدم امكانية استخدام الدواب للوصول الى الطاحون، كانت والدتي تضع كيس القمح على رأسها وتسير به إلى الطاحون، حيث كان يجب علينا أن نقطع وادياً عميقاً صعباً شديد الانحدار للوصول إلى الطاحون.طواحين مائية رئيسية
وبسبب الازدحام الشديد في الطاحون كان الزبائن يتركون أكياس القمح في الطاحون لموعد متفق عليه يصل أحياناً إلى عدة أيام حتى يتم طحنه، وتتم العودة في الموعد المحدد لأخذ الطحين وإعداد تحضيرات العيد.
▪وطاحونة الماء هذه حسبما فهمتها في ذلك الوقت عبارة عن غرفة صغيرة بها فرّاش يدور أفقياً بقوة الماء مع حجري الطاحون الصلبين اللذين يطحنان القمح، والذي يكون معلقاً في الأعلى في صندوق هرمي مقلوب فيه فتحة في أسفله تمرر حبات القمح الى الطاحون لطحنها وفق معيار محدد. وكان يتم جلب الماء من أحد الينابيع القريبة، التي تقع أعلى الطاحون ويسير الماء في مجرى سطحي محمي من الجوانب كي لا يتلوث حتى يصل فوق الطاحون ويصب في بركة ماء مجهزة لهذا الغرض، ومن هذه البركة كان يجري الماء ضمن برج عمودي، ويتم التحكم بكمية الماء الساقطة ضمن هذا البرج بقوة على فرّاش الطاحون (العجلة) المتوضع أفقياً الذي يحرك حجر الطاحون الواقع فوقه دورانياً والمدمج معه بمحور عمودي يمر طرفه العلوي عبر فتحة في حجر الرحى السفلي ويتصل مباشرة بحجر الرحى العلوي، عبر مسننات لنقل الحركة. وتكون سرعة دوران حجر الرحى مماثلة لسرعة دوران الفرّاش أو العجلة المائية، التي تدار بفعل الماء الساقط من الأعلى، ويطحن القمح أو الحبوب بشكل عام بفعل الدوران، وكان هناك مكان مخصص لخروج الطحين، الذي يسقط في الكيس الموضوع أسفل المكان.
▪وهذه أحد أشكال الطواحين المائية، فهناك الطواحين التي تستخدم العجلات العمودية، أو تلك التي يحركها الماء من الأسفل أو الأعلى أو بشكل عكسي، أو تلك التي توضع في المجرى المائي مباشرة أو عبر قناة مائية تتدفق بقوة. وهناك الطواحين الكبيرة، التي قد تملك دزينة من البوابات المائية المتحكمة بعمل كل منها.
▪هكذا كان الناس يحصلون على الطحين أو الدقيق بهذه الطريقة في العصور الغابرة، التي امتدت من أيام السومريين والفراعنة حسبما يشير علماء الآثار وحتى النصف الأول من القرن العشرين.
▪و لو عدنا الى تاريخ منطقة البحر المتوسط، لوجدنا أن طاحونة الماء استخدمت في هذه المنطقة منذ القرن الأول قبل الميلاد، وقد وصل عدد هذه الطواحين في منطقتنا و أوروبا قبل ألف عام إلى عشرات آلاف الطواحين.
▪وتشير الدراسات إلى أن نهر دجلة كان من بين أهم الأنهار التي أقيمت عليها الطواحين، إذ كانت تقام في تكريت والحديثة وعكبرا وبغداد.
▪ونقل المؤرخ اليعقوبي أنه كان يوجد في مدينة بغداد طاحونة يقال لها البطريق، وهي طاحونة عظيمة تدير مئة حجر، وكان أصحابها يجنون لقاء عملهم فيها مبالغ كبيرة.
و على نهر بردى الذي يمر عبر دمشق كانت توجد مثل هذه الطواحين.
▪هذا و تشير الدراسات الأثرية بأن من أشهر وأقدم الطواحين الأثرية الطاحونة التي عثر عليها في منطقة «التقارة» الأثرية في صعيد مصر، التي كانت تستخدم في طحن الغلال والحبوب منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام. كما أن الطاحونة التي عثر عليها في «دير العصافير» في غوطة دمشق، تمثل طاحونة أثرية تعود إلى بداية العصر الإسلامي، وهي تحتوي على ‬6 رحى بازلتية كبيرة الحجم، وأدوات طحن مختلفة، إلى جانب عدد من الرحى صغيرة الحجم، وكانت تعتمد في عملها على طاقة المياه المستجرة من الينبوع القريب من الموقع.
▪وقد سبق هذه الطواحين التي كان الناس يحصلون منها على المواد المجروشة أو المطحونة من قمح وبرغل وشعير وذرة وغيرها من الحبوب، طاحونة البيت أو الجاروشة أو الرحى البيتية، والتي لازالت توجد في الكثير من البيوت حتى الآن. ومؤلفة من حجرين دائريين قساوتهما عالية مؤلفين غالباً من صخر البازلت القاسي، وكان الحجر أو الرحى العلوي مثقوب في منتصفه لوضع المادة المطحونة ويتم تحريكه دائرياً باليد بواسطة مقبض، وهو يرتبط مع الحجر السفلي الثابت بمحور خشبي لتثبيتهما.
و اُستخدم قبل ذلك الجرن والهاون أيضاً".
▪هذا وحضرت الطاحونة في الفنون والآداب والحكايات الشعبية والفلكلور عبر التاريخ، ومن ذلك أغنية فيروز (ع الطاحونة، شفتك ع الطاحونة).
▪لقد طور الإنسان مع التقدم التكنولوجي قوة الماء هذه في انتاج الكهرباء عند بناء السدود أو في أماكن وجود المساقط أو الشلالات المائية التي تحرك العنفات بقوة وتنتج الكهرباء.
▪وحتى في هذه الطواحين البدائية يمكن انتاج الكهرباء منها، بعد تزويدها بمولد صغير، و طُبقت في الكثير من البلدان كشاهد أثري حي على هذه الطاقة الرخيصة. ومن الطواحين التي تنتج الكهرباء الرفيقة بالبيئة حالياً، الطاحونة التي توجد في منطقة غولميتس شمالي برلين.
▪يمكن القول بأنه إذا توفرت درجة سقوط الماء المطلوبة، فإن الطواحين قادرة على العمل بكفاءة في كل مكان تقريباً.
▪تعتبر طاقة المياه أرخص أنواع الطاقة للحصول على الكهرباء، يليها طاقة الرياح ثم الطاقة الشمسية، ثم طاقة الغاز، و أخيراً طاقة الفيول.
لذلك يحب علينا الآن، في ظل الحصار الحاصل على الوقود، أن نستخدم بسرعة طاقة الرياح والطاقة الشمسية وطاقة المياه أينما وجدت لإنتاج الكهرباء وإلغاء التقنين.